غياب الوعي
شهدنا بين العامين 2006 – 2009 تصاعد المد الطائفي في العراق إلى حدوده القصوى، بعد تدمير ضريحي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، وهما الإمامان العاشر والحادي عشر للشيعة الإمامية الإثني عشرية، وقد اتهمت منظمة القاعدة الإرهابية بالمسؤولية، ما أطلق حملة ثأر دموية ضد السنة العرب في بغداد على يد جيش المهدي الذي يأتمر بأمر رجل الدين الشيعي المثير للجدل، مقتدى الصدر، ولكن الحكومة لم تعلن نتائج التحقيق، ولم توجه اتهاماً رسمياً لمنفذين، ما يعني أن التحقيق لم يوجه أصابع الاتهام إلى “القاعدة”، وهو ما أثبتته التحقيقات الأميركية التي لم تشأ هي الأخرى إعلان نتائجها التي لو كانت قد أعلنت لمال مسلسل العنف الطائفي في العراق إلى التلاشي، لأسباب تتعلق بمصالح الولايات المتحدة المحتلة للعراق آنذاك. ولكن القائد العام الأميركي في العراق، الجنرال كيسي، صرّح، أخيرا في المؤتمر السنوي لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، إن نظام ملالي طهران، هو من نشر الفوضى في العراق، وإنهم ألقوا القبض على عنصرين من أتباع نظام طهران عام 2006 (عام تفجير المرقدين في سامراء) ومعهم خريطة تفصيلية بالأماكن الحيوية التي سيتم استهدافها لتوسيع نفوذها وترسيخه في العراق.
بعد أن أعلن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، انسحاب القوات الأميركية من العراق في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2011 قبل أن تؤمن الاستقرار في العراق، وتنقله، باعتبارها قوة احتلال مسؤولة أمام مجلس الأمنـ إلى دولة مدنية آمنة مستقرة. وبذلك فتحت الأبواب مشرعة دونما مقاومة للنفوذ الإيراني ليتوغل ويوغل في العراق. هنالك محطات مفصلية ساعدت هذا النفوذ ليتوغل ويرتهن العراق لصالحه أدرجها بما يلي:
1- انسحاب القوات الأميركية من العراق جعل المهمة الأمنية عن العراق من مسؤولية القوات المسلحة العراقية، وبذلك انفتح المجال لإيران وأذرعها بالتدخل واسع النطاق في الشأن العراقي.
2- انكفأ الدور الأمني للولايات المتحدة إلى مجرد جهد للبقاء في العراق وبموافقة الحكومة العراقية بعلاقة تحددها اتفاقية أمنية (SOFA)، تتجدد كل سنة، ما يعني نظرياً أن بإمكان الحكومة العراقية الطلب إلى الولايات المتحدة الانسحاب النهائي من العراق، لو شاء الإيرانيون الذين أضحى بيدهم القرار على ما يبدو.
3- ساعد تسلم شخصية ذات ميول طائفية متطرّفة منصب رئيس الوزراء، وهو الحاكم الذي يمسك بيده الإدارة التنفيذية للعراق، وبضمنها القوات الأمنية، على تنامي الخيار الطائفي (الشيعي) ممثلاً بأحزاب الإسلام السياسي الشيعية التي حظيت طوال هذه الفترة بمباركة المرجعية.
4- ساعد انسحاب القوات العراقية بأمر من رئيس الوزراء، نوري المالكي، من الموصل، بعد هجوم بضع مئات من متطرفي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإرهابييه، على تغول مسلحي هذا التنظيم ومطاردتهم القوات العراقية إلى أبواب بغداد وسيطرة التنظيم في فترة وجيزة على ما لا يقل عن ثلث مساحة العراق.
5- قاد إصدار المرجع الشيعي الأكبر آية الله السيستاني بفرض ما سمي الجهاد الكفائي إلى تشكيل ما سميت قوات الحشد الشعبي الذي استغلته المليشيات الإيرانية العاملة في العراق لإضفاء شرعية على وجودها في العراق.
6- بسبب فشل القوات المسلحة ومعها الحشد الشعبي المشكل بموجب الفتوى المذكورة اضطرت حكومة المالكي إلى طلب الاستعانة بالقوات الأميركية لإسناد عمليات القضاء على “داعش”؟ وبهذا تأسس التحالف الدولي للقضاء على “داعش”، وعاد الوجود العسكري الأميركي بدور قتالي على الساحة نفسها التي تقاتل بها المليشيات المدعومة من إيران، والتي تقاتل تحت مسمى الحشد الشعبي، وبدأ يتردد على الأسماع اسم قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، الذي وجد، مع ضباطه وقواته في الساحة نفسها، على الرغم من عداء الولايات المتحدة له ولقواته.
ومن حيث الأساس، من المفيد الإشارة إلى انتفاضة المحافظات (السنية): الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل وكركوك وحزام محافظة بغداد ومدن وبلدات شمال محافظة بابل عام بين ديسمبر/ كانون الأول 2012 وعلى مدى عام حتى ديسمبر/ كانون الأول 2013، والتي رفعت مطالب هي عين المطالب التي يرفعها شباب اليوم، والتي كانت فعلاً مترفعة عن الشعارات الطائفية ومطالبة بإزالة الطائفية السياسية من الممارسة السياسية الجارية.
دامت هذه الانتفاضة قرابة عام، اشترك فيها الملايين، ولم يكن هنالك أي وجود لقوى
متطرّفة سياسية أو طائفية. يتذكر الجميع شعارين، رفعهما رئيس الوزراء، نوري المالكي، في حينه هما “انتهوا قبل أن تنهواْ”، والآخر الذي بيّن فيه أن هنالك معسكران، هما معسكر الحسين الذي يضمه وأتباعه، ومعسكر يزيد الذي يضم الآخرين، قاصداً المنتفضين من المحافظات السنية، ومهدداً باجتياح الاعتصامات، وهو ما فعله. وأسفرت هجمات قواته عن مجازر في الحويجة والموصل والفلوجة والرمادي ومدن أخرى راح فيها عشرات من الضحايا.
تمخضت عن إجراءات نوري المالكي حركات مريبة، نتج عنها فرار أعداد من إرهابيي “داعش” من سجن أبي غريب قرب بغداد، وقد اتهم وزير العدل في حكومة المالكي أطرافاً في حكومته بتسهيل هروبهم، وهم الذين شكلوا فيما بعد نواة “داعش” في المنطقة الغربية، كما شكل هروب عشرات من سجن بادوش شمالي الموصل بطريقة مريبة هي الأخرى، تبعها إلقاء جيش السلطة السلاح وهروبه من أمام هجوم مئات من الإرهابيين على الموصل في يونيو/ حزيران 2014 سقوط المنطقتين، الغربية والشمالية الغربية، بيد “داعش” بطريقة مريبة تشير أكثر الجهات حيادية إلى دور لرئيس الوزراء نوري المالكي فيه
وقد استرعى السقوط المريع للموصل التي كانت ممسوكةً بقوات كبيرة مسلحة بأرقى أنواع التسليح بيد حفنة من الداعشيين الذين هربوا من سجن بادوش لتوهم انتباه مراقبين عديدين أجانب، وأشار إليها مراقبون ومحللون عديديون باستغراب.
على الرغم من عدم تعاطف قطاع واسع من المجتمع الشيعي في العراق مع انتفاضة تلك المحافظات، بتأثير الدعاية ذات السمة الطائفية التي تنشرها أحزاب السلطة السياسية من الأحزاب الشيعية الماسكة السلطة، مدعومة من خطاب المرجعية الذي يشير موارباً إلى أهمية دعم هذه الأحزاب، باعتباره دعماً للمذهب، إلا أن بوادر تبرم من ضيق الخطاب الطائفي الذي صاحبه فشل ذريع في تحسين نوعية الحياة في العراق، قد بدأت بالظهور أولاً بين الجماعات المثقفة اليسارية في المجتمع (الشيعي) ثم تبعتها قطاعات واسعة من الشباب المحبطين. في هذه المرحلة، شكل الحشد الشعبي والمليشيات الإيرانية مصدر عيش لعشرات الألوف من الشباب الشيعة، ممن تم تجيشهم وعوائلهم، تأييداً للمشروع الإيراني العامل في العراق حتى من دون أن ينتبهوا لذلك.
عودة الوعي
تعد حقبة حكم رئيس الوزراء، نوري كامل المالكي، من المحطات السلبية في حياة المواطنين العراقيين، ذلك أنها لم تزد حالة الانشقاق السني الشيعي في العراق فحسب، بل جلبت الانشقاق والتكتل إلى داخل ما سمّي البيت الشيعي، وعلى مستويين، الأول بين حزب الدعوة الذي يقوده المالكي والتنظيمات أو المرجعيات الشيعية التي لا تدين له ولا لحزبه بالولاء، ومن هؤلاء جيش المهدي الذي خاض معارك عنيفة معه في البصرة ومدن أخرى، فضلاً عن مدينة الثورة (مدينة الصدر) في بغداد. وكذلك مع أتباع المجتهد السيد محمود الحسني الصرخي، حيث تعرض أتباعه لمجزرتين دمويتين، الأولى مجزرة الزركة في 28 يناير/ كانون الثاني 2007 قرب النجف، وهم بطريقهم للزيارة حيث قتل بها حوالي 263 بين رجال ونساء وأطفال كانوا في طريقهم لزيارة النجف. والمجزرة الثانية حصلت في الأول من يوليو/ تموز 2014 على يد قوات نوري المالكي الذي لم يستثنِ من معارضيه أحداً. حصلت المجزرة في كربلاء، وكانت تستهدف قتل المرجع الصرخي نفسه الذي يناهض المشروع الإيراني في العراق، كما يناهض مرجعية السيد السيستاني، وقد ذهب ضحية هذه المجزرة ما يقرب من 100 قتيل. أما المستوى الثاني فهو الاحتكاك الناشئ بين قيادات الأحزاب السياسية الشيعية التي بدأت ترفض تغوّل المالكي، وأجبرته على التخلي عن المطالبة بتشكيل الحكومة لدورة ثالثة، واستبدل بشخص آخر من حزبه هو حيدر العبادي الذي أنجز في وقته تحرير الموصل من “داعش”.